متأثراً بكورونا.. الاقتصاد العالمي على شفى الانهيار بسبب الديون
الدكتور ناصر الزيادات / مدونات الجزيرة
تفيد عديد التحليلات الاقتصادية أن الانتشار العالمي لفايروس كورونا يهدد الاقتصاد العالمي بركود قد يكون عظيماً. ورغم أن تلك التحليلات قد تدور حول الحقيقة، إلا أنها تجانب قلبها لسببين: الأول، أن التحليل الاقتصادي الآني يعكس ما يحدث الآن ولا ينظر لأصل المشكلة التي يعاني منها الاقتصاد العالمي وهي تعاظم الديون. الثاني، أن انتشار فايروس كورونا حالة طارئة على اقتصاد مصاب أصلاً بالإعياء، ما يعني أن كورونا أصاب مريضاً مصاباً أصلاُ بسرطان الديون. تسعى هذه المقالة إلى تسليط الضوء على ما يحدث للاقتصاد العالمي المنهك بالديون بعد انتشار فايروس كورنا في كبريات المناطق الاقتصادية. وتعمل المقالة على استخدام أفكار وفلسفات الرأسمالية لتحليل المشهد الكلي.
الديون.. المحرك الرئيس للاقتصاد
في إحدى محاضرات مساق تمويل الشركات قال لنا الدكتور المحاضر أن الديون تعطي الشركة الفرصة للعمل والتوسع بأموال الآخرين وبكلفة أقل من الحصول على التمويل من خلال طرح الأسهم. ويعد نموذج المتوسط المرجح لكلفة رأس المال (Weighted Average Cost of Capital Model) أهم النماذج التي تثبت أن تمويل نشاطات الشركات بالديون يعد أقل كلفة من تمويلها بطرح الأسهم. وعلى الرغم من ذلك فإن هناك حدود لا يمكن تجاوزها من الديون تسمى نسبة الرفع المالي. وهذه النسبة معيارية تختلف من صناعة لأخرى، لذلك تعتبر تلك النسبة من أهم عوامل تقييم الاستثمار في أسهم الشركات. حتى هنا يبدو الأمر منطقياً ولكن في ظل الظروف الاعتيادية التي تكون فيها أسعار الفائدة منخفضة مقارنة بالأرباح على الأسهم.
خلال الأزمة المالية العالمية في العام ٢٠٠٨، اتبعت الدول الكبرى أسلوب “التيسير الكمي” من أجل إنقاذ الأسواق. وقد قامت تلك الفكرة بشكل مبسط على طباعة الدول لمزيد من عملتها الورقية من أجل ضخ السيولة في الأسواق لإنعاشها
أما إذا ارتفعت أسعار الفائدة لأي سبب، أو إذا عجزت الشركات عن سداد ديونها لسبب عام مثل انتشار فايروس كورونا، الذي أدى إلى انخفاض الطلب على المنتجات والخدمات، فإن تلك الشركات لن تكون قادرة على تحقيق أرباح لمساهميها، وعاجزة عن سداد ديونها في نفس الوقت. وهذا يعني أن الأثر سيكون مضاعفاً في آن واحد وهو ما يحصل الآن في الاقتصاد العالمي. وقد توقعت تقارير متعددة أن كبريات الشركات الأمريكية العالمية المدرجة في وول ستريت عن عدم تحقيها أرباح في الربع الأول من العام الجاري. ويمكن سحب هذا السيناريو على كبيرات الشركات العالمية في كافة أرجاء العالم. ولكن يبقى السؤال الأهم: ماذا سيحصل للأسواق المالية العالمية التي تتخذ من أسهم تلك الشركات أساساً للأدوات المالية التي يتم تداولها فيها؟
الديون في الأسهم المالية العالمية
يدرك المتابع أو المتعامل في أسواق الأسهم المالية العالمية أن أحجام الصفقات المهولة التي يتم تداولها في تلك الأسواق لا تعكس بالضرورة قدرة المستثمرين الحقيقية على ما يستثمرون به. بمعنى آخر، أن غالبية الصفقات تتم بنسبة ١٠ ٪ مما يملكه المستثمر، في حين يتم تمويل الـ ٩٠٪ المتبقية من خلال الاقتراض بعدة طرق معروفة في أسواق الأسهم ومنها على سبيل المثال لا الحصر التمويل بالهامش.
وفي ضوء عدم قدرة الشركات المدرجة في تلك الأسواق على تحقيق أرباح، فإن حملة الأسهم سيسعون إلى بيع أسهمهم للتخلص من عبء الدين الناتج عن التمويل بالهامش الذي يفرض عليهم تغدية حساباتهم بأموال إضافية كلما انخفض سعر السهم. وهذا سيؤدي إلى ازدياد الرغبة في البيع مع ازدياد عدم الرغبة في الشراء متزامنتان مع عدم القدرة على سداد الديون للشركات ولحملة الأسهم فتحصل انهيارات عامة يومية في الأسواق كالتي نشاهدها منذ أسبوعين. ولكن الطامة الكبرى تكون في سوق المشتقات المالية.
أسواق المشتقات المالية.. مقامرات عالية الخطورة لإدارة المخاطر!
رغم أن علم المشتقات المالية يستند إلى الإحصاء والرياضيات، إلا أن تلك العلوم تفترض دائماً الحالة المثلى التي تحيد السلوك الإنساني غير المبرر في كثير من الأحيان. وهذا مرده ببساطة إلى أن فلسفة الرأسمالية تقوم على الأرقام فقط ولا تعترف بالطبيعة البشرية للمتعاملين في الأسواق. ويتماز علم المشتقات المالية، أو الهندسة المالية كما يحلو للمكابرين تسميته، بالصعوبة التي تجعل من إتقانه أمراً عسيراً على غالبية البشر. ينعكس هذا التفاوت على المتعاملين في سوق المشتقات المالية التي تفترض حالتها المثلى أن جميع المستثمرين لديهم نفس الكم من المعلومات، وهو أمر لا يمكن تحقيقه. لذلك لا بد من خاسرين في الأسواق المالية بشكل عام والمشتقات بشكل خاص. ويمكن تشبيه تلك الخسارة بلعبة الكراسي الموسيقية التي كنا تلعبها في المدارس ونحن صغار. فعندما تنتهي الموسيقى، لا بد من أن يخسر أحدنا مقعده وهكذا دواليك حتى يبقى آخرنا رابحاً فقط، وكلنا دونه خاسرون.
المعضلة الأهم أن أسهم الشركات غير القادرة على تحقيق أرباح، والتي يرغب المستثمرون ببيعها في سوق الأسهم، ذات الأسهم هي محل أدوات “ابتكارية” يتم تداولها في سوق المشتقات المالية، ويتم تضخيم أحجام التداول عليها مئات المرات. أثر الدومينو يبدأ من سوق الأسهم الذي نعرفه فيمتد ليصل إلى سوق المشتقات حيث تدار أموال بتريليونات الدولارات، كلها ليست حقيقية على أرض الواقع. الحقيقة الوحيدة هنا أن كل المتعاملين فيها يعلمون أن ما يتم تداوله في تلك الأسواق مجرد حبر على ورق في حالة الأزمات، وما حصل خلال الأزمة العالمية في العام ٢٠٠٨ أكبر دليل على ذلك، إذا تبخرت مئات المليارات في سوق المشتقات وتأثرت جميع اقتصاديات العالم. السؤال الآن: متى يمكن أن ينتهي أثر الانهيار؟
تدخل الدول لحماية الأسواق من الانهيارات
خلال الأزمة المالية العالمية في العام ٢٠٠٨، اتبعت الدول الكبرى أسلوب “التيسير الكمي” من أجل إنقاذ الأسواق. وقد قامت تلك الفكرة بشكل مبسط على طباعة الدول لمزيد من عملتها الورقية من أجل ضخ السيولة في الأسواق لإنعاشها. كما قامت بشراء الأسهم والأدوات المالية التي تملكها كبريات المؤسسات الاستثمارية خشية من انهيار الأسواق. مما يثير السخرية أن المستفيد الأول والأخير من عمليات التيسير الكمي كانوا صناديق التحوط والبنوك الاستثمارية الذين تسببوا بالأزمة ابتداءً. وقد هاجمهم الرئيس باراك أوباما آنذاك إلا أنه أذعن لدعمهم على اعتبار أن سقوطهم يعني سقوط العالم. أما الأمر الآخر المثير للسخرية، أن دعم تلك الشركات التي تدير “ثروات” الأقلية في العالم كان على حساب الأقلية الفقيرة وحكوماتها. وهنا يتجلى الظلم الذي تروج له الرأسمالية النيوليبرالية بأبشع صوره.
لقد أدت عمليات “التيسير الكمي” إلى ارتفاع أرقام الديون في العالم لتصل إلى ٥٠٪ من الدين العالمي ما قبل الأزمة المالية العالمية، وتتجاوز حدود ٢٦٠ تريليون دولار في الربع الأول من هذا العام. وهذا يعني أن عمليات التيسير الكمي عالجت الأزمة المالية العالمية، التي كان أساسها العجز عن سداد ديون أصحاب المنازل في أمريكا، بزيادة أحجام الديون العالمية إلى أرقام غير مسبوقة، أو كما قالت العرب” وداوه بالتي كانت هي الداء”.
ماذا يخبئ لنا المستقبل؟
يفيدنا التاريخ أن حالات الظلم التي سادت على مر العصور لا بد لها أن تنتهي بشكل من الأشكال. ولم يشهد التاريخ حالة من تغول فئة قليلة من البشر على حقوق وأقوات وأرزق الغالبية العظمى منهم مثلما نشهده في عصر النيوليبرالية الأمريكية. أما من الناحية العلمية للأسواق المالية، فإن الأسواق لا بد لها من أن تصحح نفسها. والتصحيح هنا يكون بعودة الأمور إلى أصلها التي كانت عليه قبل أن تتضخم لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم. لعل فايروس كورنا يسهم في ذلك رغم الألم الذي ينشره بين البشر، لكنه، وبلا شك، سيعجل من انهيارات في الاقتصاد العالمي كانت ستحصل حتماً لو لم يكن هناك كورونا.
الخلاصة
تخلص هذه المقالة إلى أن انتشار فايروس كورونا ما هو إلا عامل مساعد لضعضعة الاقتصاد العالمي المتهالك أصلاً بسبب أحجام الدوين المهولة، وانتشار الهوة بين الغنى والفقر، والظلم في التغول على حقوق غالبية البشر وأقواتها وأرزاقها لصالح فئة قليلة جداً تتحكم في مفاصل الاقتصاد العالمي وتربطه بها وبثرواتها. وقد اتبعت المقالة مبادئ بسيطة في نظرية التمويل الرأسمالية الحديثة التي تشجع على الاقتراض كوسيلة للحصول على أموال بكلفة أقل من المشاركة في الأسهم